" } فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا {65} قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا {66} قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا {67} وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا {68} قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا {69} قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا{70} " الكهف .
أرأيت كيف لما أخبر الله عن العبد الصالح الذي خرج موسى عليه السلام في رحلته من أجل لقائه والتعلم منه ، كيف أخبر عنه بأنه عبد من عباد الله آتاه الله من لدنه رحمة وعلمه من لدنه علما ، وأن موسى عليه السلام لما لقيه سأله الصحبة والرفقة فأبى واعترض العبد الصالح العالم : " قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا " هذه كلمة شديدة ؛ لو نظرنا إلى ظاهرها وما تحمله من دلالة انتفاء استطاعة الصبر في حق نبي كريم كليم من أولي العزم ، أظن أنه لو قيلت لآحاد الرجال الآن لانتفض غاضباً واعترض رافضاً أن يرمى بعدم استطاعته الصبر ؛ فكيف وقد قيلت للنبي الكريم موسى عليه السلام ؟
إنها لتبعث في النفس الأسف وتثير الغضب وتهيج المشاعر وتستدعي سوء الظن بالمتكلم فربما رمى مكلمه وقائلها بأنه متعجرف ومتكبر وسئ الخلق ؛ كيف لا ولم يكن للرجل العالم الصالح هذا بموسى سابقة علم ولا قديم معرفة وخبرة بحاله وشخصيته ، فأنى له أن يحكم ابتداء عليه بأنه لن يستطي معه صبراً ؟ .
فجاء التعليل الوارد بعدها استدراكاً وتفسيراً ليذهب بالظن السئ ويطرده قبل وروده ويمنعه قبل مجيئه ويذهب سخيمة النفس :
" وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا " ؟ إذاً ، فقد أتبع العبد الصالح اعتراضه ورفضه مرافقة موسى كليم الله عليه السلام بذكر علة الاعتراض والرفض وهي أن ما سيراه في حال المرافقة والمصاحبة هو من الأمور الجليلة والمشاهد الصعبة المستبشعة العظيمة بالنظر المجرد إلى ظاهرها دون التعرف على عللها وخلفياتها ، وليس لعيب في المرافق ولا لنقص في شخصية الصاحب .
إذاً ، نصل إلى أن مبادرة العبد الصالح المعلم من علم الله ما لم يعلمه موسى كليم الله عليه السلام ، وتقديم العذر وبيان الأمر أتى في موضعه ليمنع إيغار الصدر وتغير النفس وتسلل الشك ليبقى الأمر راجعاً إلى علم زائد على علم موسى وغائب عن تصوره ، وهو ما بدا بعد ذلك من مشاهد رآها موسى وشهدها وكلما أنكر مشهداً واعترض على تصرف واستبشع موقفاً احتج عليه العبد الصالح بما بين له سلفاً من علة راجعة إلى فارق العلم والمعرفة بينهما .
وهو ما تبين لنا بعد ذلك من مواقف القصة الثلاثة " السفينة والغلام والجدار " ، "} قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا {72} قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا {73} ، " قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا {75 " .
حتى إذا استفرغ الوسع وبلغ المدى وبالغ في العذر قال العبد الصالح : " } قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا {78 " ؛ ثم شرع يبين له ما خفي عليه من عذر و تفصيل الأمر المجمل وتبيين الأمر المبهم ، وتعليل الأمر المشكل ؛ فكان من تمام الفائدة وحسن العرض للقصة .