* مقال * حلف اليمين على ..." ما لم يخالف شرع رب العالمين "



حلف اليمين على ..." ما لم يخالف شرع رب العالمين "

الآن 4.14 قبيل فجر الأربعاء الثاني من شهر ربيع أول 1433هـ ، الخامس والعشرين من يناير 2012م بعد عام على الثورة المصرية الغراء .

منذ ساعتين حاولت أن أنال قسطاً من النوم حتى أقوم للفجر غير أني لم تفارق مخيلتي تلك الملحمة الإسلامية التي وقعت في الجلسة الإجرائية لبرلمان الثورة والتي شهدت حلف النواب لليمين الدستورية .

والحقيقة أني أسعدتني تلك الإضافة التي حرص عدد من النواب على تقديم اليمين بها وآخرون ختموا بها اليمين والتي أثارت استغراب بعض النواب الآخرين واستنكار البعض الآخر حتى إن رئيس الجلسة الإجرائية الدكتور السقا أصر على أن يعيد الأستاذ ممدوح إسماعيل أداء اليمين اعتراضاً على تلك الإضافة ، واحتج الدكتور السقا على الإضافة بأنها غير دستورية ولم ترد في نص اليمين الذي أقرته لائحة مجلس الشعب !!
وتلك الزيادة كما سمعنا جميعاً هي :

" فيما لا يخالف شرع الله ، أو بما لا يخالف شرع الله " .

والحقيقة أنني أردت أن أقف مع هذه الزيادة ومع اعتراض الدكتور السقا عليها وحجته وبرهانه الذي استد إليه في هذا الاعتراض ؛ حيث قال :" إنها خروج على النص" .

ووقفتي ليست معه هو فحسب وإنما مع المجتمع كله وثقافة كثير من أبنائه وأفراده من القانونيين والسياسيين والنخبة والمثقفين والعامة بل مع نفسي أنا !

لقد اعتدنا على تقديس وتعظيم وتفخيم عدة مبادئ وتقاليد وأعراف وعادات نحن من صنعناها وأوجدناها وربما دست علينا دساً وزج بها بيننا زجاً حتى إننا إذ نتمسك بها ونتعصب لها قد نوالي ونعادي عليها وربما تناحرنا وتشاجرنا وتقاضينا وربما انفصمت عرى وقطعت أرحام وسفكت دماء وعطلت مصالح ومساجد وبيع .

مثلاً ... عندما يتم تناول قضية شائكة محسومة سلفاً منذ مئات السنين كالعقيدة أو التفاضل بين البشر على أساس الدين ـ دون الإخلال بالمساواة في المعاملات وتحقيق العدالة وتكافؤ الفرص ـ تجد الناقد يخرج مستنكراً على المتكلم في تلك المسلمات العقدية بأن هذا الكلام يتعارض مع المواثيق الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ويخالف الدستور الذي ينص على أن جميع البشر سواء ولا يجوز التفريق أو التمييز بينهم على أساس من لون أو جنس أو عرق أو نوع أو دين أو معتقد " أو نحو هذا .

وإذا أراد شاب مثلاً ـ على المستوى العائلي البسيط ـ أن يتخفف من بعض الأعباء الشكلية في إجراءات الزواج وتكاليفه ليعجل بالتعفف ويشعر بالاستقرار ، أو إذا أراد أن يتجاوز بعض مظاهر الزواج التي اعتاد الناس عليها ولو من باب التيسير لا التدين ، قالوا له : الناس تاكل وشنا والعادات والتقاليد وسِلْو العائلة وميصحش " .

الحقيقة أن كلا الموقفين وذات السلوكين سواء من العائلة المجتمعية مع ابنهم أو من النخبة والقانونيين وغيرهم ومثله الذي وقع من الدكتور السقا اعتراضاً على الإضافة في اليمين ؛ كل ذلك سواء في انتمائه إلى ذات العقلية والثقافة المجتمعية التي تربت وتكونت وتشكلت على تقديس وتعظيم ما هو من صنع وتأليف واختراع البشر ونتاج هقولهم وقرائحهم وإن تصادم مع ما هو ثابت مقدس مبجل مقدم 

وهذا الأمر ينبغي أن ينظر إليه من خلال التشريع الإسلامي الحاكم الذي هو القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة .

فإذا كان متمسك المعترض على قول أو فعل أنه يخالف الدستور الذي هو القانون الأساس والأعلى للبلاد والذي يجب أن توافقه كل القوانين الأدنى منه مرتبة بحيث لا يجوز إصدار قانون يخاله أحكام الدستور وإلا طعن عليه بعدم الدستورية " الرقابة اللاحقة " أو رفض من أساسه ووئد قبل ميلاده " الرقابة السابقة للمحكمة الدستورية العليا على القوانين " .

إذا كان مستمسك المعترض على المعترض عليه في قوله أو فعله هو مخالفته للدستور أو القانون أو اللوائح والتشريعات الداخلية أو للأعراف والعادات والتقاليد المجتمعية أو الدولية كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمعاهدات والمواثيق الدولية والتي هي يقيناً من وضع وصنع وصياغة واختيار وتأليف البشر ؛ فإنه لمن باب أولى وأحرى أن يتمسك صاحب التصرف أو القول الواقع عليه الاعتراض بقوله أو فعله أو تصرفه ما دام موافقاً للدين الحق الذي هو اختيار رب العالمين القائل في كتابه : " } إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ {41} لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ {42 " فصلت .

كيف لا وقد علم يقيناً أنه ما كان من صنع البشر لحقه النقص والاضطراب والخلل والاختلاف والتبيان والتناقض وأحاط به العيب والريب من كل جانب :" {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا {82 " النساء .

لماذا يصر أناس كثيرون ممن يسمون أنفسهم بالنخبة وصفوة المجتمع بل ويصر كثير من العامة ـ حتى دون تعمد أو قصد وبمحض التنشئة المختلة ـ على أن يراعى جناب العادات والتقاليد والأعراف التي تلحق الضرر بالبشر بينما يُنَحَّى عمداً وبلا مبرر سوى الخوف من الناس والحرص على سمعة العيلة ووشنا من الأكل " ، أو مراعاة القوانين والدساتير و...." بينما يهدر حق التشريع وهو الحق الذي لا ريب فيه والصدق الذي لا كذب يعتريه ؟

أم أنها الأصنام التي نصنعها بأيدينا أو تصنع لنا ونعبدها ونخر لها ساجدين وبحمدها مسبحين وعليها عاكفين ولها عابدين وبها عائذين وبجنابها لائذين مهما خالفت الشرع والدين ؟

إذا كانت الثورة قد أفسحت لنا مجال الحرية واختيار الطريقة التي عليها نحيا فلم لا نعيد صياغة حياتنا كلها ـ ولو تدريجياً ـ لتكون أقرب ما تكون إلى شرع الله تبارك وتعالى ؟

وهذا هو ما أعلنه وتمسك به وأيده النواب المنتخبون ممن ينتمون إلى التيار الإسلاميِّ على اختلاف توجهاته وتكتيكاته ـ أفلحوا إن صدقوا !!

أم أن القوانين والدساتير والعهود والمواثيق التي هي من صنع البشر ستظل أبد الدهر بمثابة آلهة العجوة التي طالما عبدت من دون الله وقدست رغم تقادم الزمن وتهالك المحتوى وتهافت الصياغة وتداعي البنيان و تكاثر الذباب عليها ؟

لا يزال أمامنا الكثير لنعمل على تغييره مهما كانت العقبات ومهما كانت الأزمات ، والمشكلة التي أراها أخطر وأشد وأعنف من النظام البائد هي تلك العقيدة التي ورثناها من جراء تطاول عهود الظلم وتعاقب سنوات القهر حتى تربينا على تقديس ما هو مدنس وتقديم ما هو مؤخر وتعظيم ما هو محقر واستبدال ذلك كله بالذي هو خير ألا وهو الطهر والنقاء والرفعة والشفاء والكفاية والغناء والنور والضياء الشريعة الخاتمة والملة الحاكمة والكتاب المهيمن والنهج المبين الذي قال عنه الله عز وجل : " ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ..." المائدة .

أليس هو الشرع الخاتم والنبي المعصوم والكتاب المحفوظ والكتاب المهيمن ؟ 
قال الله عز وجل : " } وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ ...." {48 المائدة .

أخشى أن الإشكال الآن ليس فقط في فلول النظام الفاسد و ذيول العهد البائد فحسب بقدر ما هي في نفسيات تربينا عليها ومعتقدات تكونت داخلنا يجب أن نتخلص منها ونتطهر من دنسها ونبرأ من شركهها ونستعيذ بالله من شرها حتى ننجو من خبثها .

إننا نحتاج بحق وشدة وسرعة وقوة وصراحة ووضوح إلى أن نجعل الدستور الأعلى والقانون الأسمى والتشريع المرعيَّ والمنهاج المحميَّ هو دين الله الذي ارتضاه هو لنا لا الذي ارتضاه لنا البائدون أو الفاسدون ولا الذي اختلقه علينا المختلقون من الغرب والشرق أو غيرهم من العملاء .

وإنه لمن المفارقات العجيبة أننا وعلى الرغم من وصول أتباع وأبناء التيار الإسلامي على اختلاف توجهاتهم وتعدد راياتهم المنبثقة ـ على ما يجب أن تكون ـ عن راية وحيدة ووحدة عقيدة ـ على الرغم من وصولهم إلى البرلمان الذي هو لسان الأمة ومجلسها بلحاهم وقمصانهم " الجلاليب" وخمر نسائهم ؛ إلا أننا لا نزال نعيش نفسية الإقصاء الوظيفي العملي والإعلامي على جميع الأصعدة " قطاع عام وخاص " ؛ فلا تزال المحالُّ والفنادق والشركات والمصانع والقنوات التليفزيونية لا تقبل بموظف ملتح ولا امرأة ذات إيشارب " طرحة بيقولوا عليها حجاب " فضلاً عن خمار أو نقاب " !!

كما أنه لا تزال النوادي والقاعات التابعة للقوات المسلحة أو حتى النوادي العامة منها ما لا يسمح فيها بالدخول للملنحين ولا المنتقبات !

القضية ليست قضية قسم أو حلف يمين دستورية أضيفت إليها ابتداء أو انتهاء كلمة " فيما لا يخالف شرع الله " القضية ـ من وجهة نظري في تعظيم وتقديس المصنوع والمخترع والمنتج البشري الذي بأيدينا صنعناه أو صنع لنا بأيدي غيرنا وظللنا عليه عاكفين ؛ في الوقت الذي لا يراعى فيه دين رب العالمين ، بل ويُستغرب ويُتندر وربما يُسخر من التمسك بكلمات أضافها نائب محب لدينه مشتاق إلى نعيم تطبيقه حريص على تفعيل مواده التي طالما عطلت ، ملهوف على استحضار أحكامه التي طالما بدلت .

أذكر أنني رأيت مقطعاً على صفحات المجلات والصحف الالكترونية وتناقلته المنتديات وتعاقبت عليه التعليقات وألِّفت فيه النكات المضحكات عنوانه " أغرب حوار تليفزيوني " .

وفيه ظهر الشيخ المجاهد حافظ سلامه حفظه الله وسلمه وهو جالس في غرفة مستقلة أمام كاميرا أحد البرامج وفي الاستوديو ظهر الشيخ أحمد ترك " إمام مسجد النور من الأوقاف " مع المذيعة المتبرجة ، إبان مشكلة وأزمة مسجد النور بالعباسية ، وقد عللت المذيعة هذا المشهد بأن الشيخ حافظ سلامة قد أصر على ألا يظهر في برنامج تقدمه مذيعة متبرجة ،

وقد تكرر موقف قريب منه حيث ظهر المهندس عاصم عبد الماجد مع المذيعة هالة سرحان في برنامج " ناس بوك" وقد اشترط أن يفصل بينه وبينها بحائط وبالفعل تم ذلك في ذات الاستوديو " ولا يخفاكم ما أحدثه ذانك المشهدان من ردود أفعال صاخبة وساخرة و ... " ـ يتفق البعض أو يختلف مع طريقة الظهور ومبرراته فلكل وجهة هو موليها .

وكأن الأصل هو الاختلاط والتميُّع " الوسطية والاعتدال بزعمهم " والشاذ هو التمسك بما تيسر من أمور الدين وثوابت الشريعة .

القضية إذاً في تلك التربية التي نشأ عليها كثير من أبناء الأمة المسلمة بحث صارت الموازين مقلوبة والأمور معكوسة والفطر منكوسة والمفاهيم مغلوطة ـ إلا من رحم الله وكثير ما هم والحمد لله ـ .
ومن هذا القبيل أيضاً فإن ما جرى تحت قبة البرلمان من طلب أحد نواب المجلس من حزب النور من رئيس المجلس رفع الجلسة لصلاة الظهر لهو في الأصل أمر لا يحتاج إلى ضجة ولا دهشة ولا يسترعي الانتباه لولا أن الأمور على النحو المذكور آنفاً .

بل إن الأصل أن يسترعي الانتباه ويثير الدهشة والاستغراب بل والاشمئزاز أن يحين وقت الصلاة وينصرف الناس إلى صلاتهم في حين يبقى بعض الأعضاء النواب ـ أو غيرهم في أية مصلحة حكومية أو مؤسسة أخرى ـ من أبناء الإسلام في دولة الإسلام والأزهر وقد أعرضوا عنها بلا عذر ولا مبرر ولا سبب ولا مسوغ ــ اللهم إلا النصارى وصاحبات الأعذار من نائبات المجلس !!

إننا بحق نحتاج إلى ثورة أخرى أعمق وأقوى وأشد وأرقى ؛ نحتاج إلى ثورة على أنفسنا وعاداتنا وتقاليدنا !!
نحتاج إلى ثورة على ضمائرنا وأخلاقنا ومبادئنا وسلوكياتنا التي انحرفت فانجرفت بنا عن السلبيل الأقوم والطريق الأسلم والنهج الأحكم .
فاللهم هيئ لنا تلك الثورة وارزقنا قائداً حازماً حكيماً فاهماً .

وانتهيت منه مع أذان الفجر . 

ابن الأزهر ومحبه
أبو أسماء الأزهري
كارم السيد حامد السروي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية
: 28-01-2012
طباعة