منزلة الوقت في الكتاب والسنة

بسم الله الرحمن الرحيم

منزلة الوقت في الكتاب والسنة

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم .. أما بعد /

إن قطار الزمان حثيث الجري لا يتوقف قط إلا أن يشاء الله عز وجل ، ولو نظر الإنسان منَّا إلى عمره الذي مضى وجده كتلة منكمشة من الوقت متداخلة ، لا يعلم بالضبط معالمها لكنها عند الله عز وجل أحصيت إحصاءاً دقيقاً ، وعدَّت عداً بحيث لا يضيع منها شيء ولذلك ذكر الله تعالى أقوال الناس يوم القيامة لمَّا عاينوا الموقف وعلموا أنه يوم طويل عبوس عظيم قمطرير ، فسأل بعضهم بعضاً : {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [ المؤمنون : 112] .

فرأوا أن هذه المدة التي لبثوها في الدنيا مع طولها وكثرة الذكريات فيها من فترة الصبا ثم يصير غلاماً فشاباً يافعاً ثم يبلغ الأشد ثم يصير شيخاً قد يصل إلى ذلك أو لا يصل ، المهم أن هذه المدة صارت قصيرة جداً في حسه بالنسبة لطول المقام يوم القيامة لذلك قالوا : { لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [ المؤمنون : 113] .

يا أيها الحبيب : إن الزمان هو رأس مالك ، وهو هبة العلي الأعلى لك ، كنـز عظيم ، ووعاء مبارك ، ومراحل طيبة ومطايا عزيزة إن أنت ادخرتها لنجاتك ولمعادك ، وأما إذا ضيعتها سداً ، وتركتها عبثاً فأطحت بها فإن نفس المفرط سوف تتقطع على ذلك في الآخرة حسرات ، فاحذر أن تكون من هؤلاء الذين ذكر الله تعالى حالهم في القيامة فقال : {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [ الزمر ]

ألا أيها الحبيب : أعيذك بالله أن تكون من هؤلاء الذين يسألون الله الرجعة عند الموت لعلهم يدركون ما فات فلا يستجاب لهم ، أما قرأت في كتاب ربك ما يبين لك هذه الصورة شاخصة واضحة لمن قصَّر وفرَّط ، قال تعالى : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} [ سورة المنافقون ]

فهذا رجل رزقه الله مالاً يبلغه الزكاة فما أدَّاها ، ويبلغه الحج فبخل وآثر العاجلة على الآخرة ، ولما جاء الموت فعاين الملائكة وعلم أنه على أهبة الرحيل الأخير فدعا ربه أن يؤخره وقتاً ما ليكون من الصالحين فما استجاب الله تعالى له .

أخرج الترمذي في " سننه من حديث ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - قالا : مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ رَبِّهِ أَوْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَمْ يَفْعَلْ يَسْأَلْ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ فَقَالَ رَجُلٌ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ اتَّقِ اللَّهَ إِنَّمَا يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ الْكُفَّارُ قَالَ سَأَتْلُو عَلَيْكَ بِذَلِكَ قُرْآنًا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ .........إِلَى قَوْلِهِ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ...الأثر . (1)

يا أيها الأخ الحبيب : أعيذك بالله تعالى أن تكون ممن إذا قام يوم القيامة تمنى أن يرد إلى الدنيا ليعمل صالحا من جديد وهو من الكاذبين فيما ادعى ، يقول الله عز وجل مبيناً شأن المفرطين المكذبين لمَّا حشرهم الله عز وجل وعرضوا على جهنم فتمنوا الرجوع إلى الدنيا مرة أخرى ليتداركوا ما فات ، قال تعالى : {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [ الأنعام : 27] .

يا أيها الحبيب : أما علمت أن الله تعالى أقسم بالأوقات كلها في القرآن ، وهذا لأهميتها وعظيم شأنها فقال تعالى : {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [ الفجر] .

كما قال تعالى : {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [ العصر] .

كما قال تعالى : {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [ التكوير] .

وقال تعالى : {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [ الضحى]

كما قال تعالى : {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [ الشمس]

وقال تعالى : {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [ الليل] .

وقال تعالى : {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [ الإسراء]

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْكِبِي فَقَالَ « كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ » . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ . (2)

وقال صلى الله عليه وسلم : « اغتنم خمسا قبل خمس ، شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك » [ شعب الإيمان للبيهقي ح/9882]

وفي الجامع الصغير وصححه الألباني في صحيح الجامع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (("لَوْ أَنَّ عَبْدًا جُرَّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى يَوْمِ يَمُوتُ هَرَمًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، لَحَقَّرَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،...)) [ صحيح الجامع ح/ 5249] .

يا أخيَّ : إن الله تعالى لمَّا ذكر هذه الأوقات على هذا النحو نبهنا لنجعلها أوعية مباركة لطاعته والسعي الحثيث في مرضاته وإيثاره تعالى على غيره ، قال تعالى : {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [ الروم : 18]

وقال تعالى : {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} إلى أن قال : {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } إلى آخر السورة .[ المزمل]

وقال سبحانه وتعالى : {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام]

وقال تعالى : {رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا} [ الإنسان] .

وقال سبحانه : {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [ هود]

وقال تعالى : {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}[الإسراء]

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ )) [ مسلم : 344] .

وفي "المسند" و"السنن الأربعة " و " سنن الدارمي " بإسناد صحيح من حديث أوس بن أوس الثقفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَسَّلَ وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَدَنَا وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ سَنَةٍ صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا )) [ الترمذي ح/465] .

ألا يا أخي الحبيب : اعلم أنه من أيقن بالموت خاف الفوت ، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب ، فالطريق طويل ، والناقد بصير ، وكل شيء معدود ومكتوب وسوف يرى كل امرئ ما قدمت يداه ألا فصابر وثابر واعلم أن من حاذ المفاخر ليس كمن صلى في الصف الآخر ، وأنه من جد وجد وليس من قنت وسجد كمن نام ورقد ، ولله عاقبة الأمور ، جّنبنا الله وإياك ضياع العمر ورزقنا حسن القول والعمل وحسن الخاتمة والمسلمين أجمعين والله من وراء القصد .

أبو أحمد

عبد المنجي السيد أمين

ـــــــــــــ

(1) أخرجه الترمذي ك/ تفسير القرآن عن رسول الله ب/ سورة المنافقين ح/ 3316 وقال الشيخ الألباني ضعيف الإسناد وأورده في ضعيف الجامع ح/ 5803.

(2) البخاري كتاب الرقاق ح/ 6416
: 20-02-2010
طباعة